جومرد حمدوش
كانت زيارتي إلى دمشق بعد مرور أكثر من 15 عامًا مختلفة تمامًا، وكأنني أزور مدينة جديدة. ومع ذلك، أينما كنت، الذكريات ترافقك أينما ذهبت. قبل أي شيء، يجب أن يتحرر الإنسان من ذكرياته السابقة كي يتمكن من استيعاب الواقع الحالي بشكل جيد. عليك أن تراقب الناس عن قرب، وتسمع كيف يرون واقعهم وكيف يتوقعون المستقبل.
دمشق اليوم خالية من مظاهر الدولة. يمكنك التجول بحرية في جميع أرجاء المدينة دون أن يسألك أحدٌ من أنت أو من أين أتيت. بلا شك، هذا الإحساس بالأمان جميل جدًا، حيث يمكن للمرء أن يتحرك بلا خوف. ومع ذلك، في كل حي مساءً، ينتشر بعض مسلحي هيئة تحرير الشام بأسلحتهم الخفيفة لضمان الأمن ومنع أي مظاهر لخطف المدنيين، ولكل مسلح بطاقة تعريف تشير إلى انتمائه لهيئة تحرير الشام.
الخبز متوفر بكثرة في دمشق، يشتريه الناس من الفرن، كما والأطفال يبيعونه في الشوارع. المواد الغذائية كلها متوفرة والأسعار أقل مقارنة بالماضي، لكنها لا تزال مرتفعة بالنسبة لدخل السكان، مما يجعلها صعبة على أهل المدينة، ناهيك عن الزوار.
على الطرقات، يكاد وجود شرطة المرور يكون معدومًا. وإن وجدوا، فهم في الغالب من عناصر مسلحة يرتدون ملابس مدنية لضبط حركة السير، لكن وجودهم محدود. كما لاحظت أن بعض المدنيين يقومون أحيانًا بأعمال شرطة المرور بشكل طوعي، لكن قلة من الناس تنتبه إليهم. اعتقد خلال تواجدنا في دمشق لم نر سوى إشارة ضوئية واحدة تعمل، باقي الإشارات كلها لم تكن تعمل.
خلال تنقلنا في المدينة، مررنا بسيارة إسعاف تعاني للوصول بسبب ازدحام الطرق، ومع ذلك، لم يحاول أحدٌ أن يفسح لها المجال من تلقاء نفسه. بعض السائقين تركوا سياراتهم وحاولوا تنظيم الحركة للسماح للإسعاف بالمرور، لكن لا من مستجيب. هذا يعكس رغبة الناس في تحسين ظروف حياتهم اليومية، ولكنهم لا يملكون الوسائل لتحقيق ذلك، وأيضاً يظهر مدى الفوضى الموجودة.
من ناحية النظافة، الوضع سيئ للغاية. الشوارع مليئة بالنفايات، والعاملون في البلديات غائبون تمامًا. حتى عربات جمع القمامة تبدو قديمة وتحتاج إلى استبدال. الخراب الناتج عن سقوط النظام لم يُصلح بعد، وما زالت آثار الدمار واضحة في كل مكان.
دمشق تحولت إلى سوق مفتوحة لكل شيء ولأيٍ كان، لا يوجد شيء منضبط. كل شيء معروض للبيع. حتى البنزين يُباع في الشوارع، مما يخلق أجواءً غير صحية ويضر بصحة السكان، سواء كان الناس على دراية بمدى الأضرار الصحية أو لا، فلا يتغير شيء من الموضوع. رأيت عدداً من الأشخاص ممن أتوا إلى المشفى وكانوا يعانون من مشاكل في التنفس.
لم يكن الوضع في المشافي ليس بأحسن حال. دخلت المستشفى بسبب تسمم غذائي. رأيت هناك شابة تعرضت يدها لإصابة وكان يجب تقطيب جرحها، بعدما أنهى طبيب الطوارئ تقطيب الجرح رأيته كيف يقوم بغسل أدوات التقطيب بالماء والاسفنجة ومن ثم وضعها على الطاولة ليجف الماء من على تلك الأدوات، وهذا أمر صادم حقًا! من المفترض أن الطبيب يدرك جيداً أن الماء لا يقتل الجراثيم ولا يعقم الأدوات الطبية. من المفترض أن يتم التعقيم باستخدام مواد مخصصة، لكنهم يستخدمون وسائل بدائية قد تؤدي إلى تفاقم الإصابات أو حتى حدوث حالات وفاة.
دمشق اليوم ليست كما كانت. إعادة إعمارها قد تتطلب أكثر من 20 عامًا لتصبح مثل أربيل، عاصمة إقليم كوردستان العراق.
أغلبية الناس يعيشون حالة من الإنكار، وكأنهم في حالة من السكر الجماعي. القليل فقط يتساءلون عن المستقبل، بينما البقية تعيش اللحظة دون التفكير فيما سيأتي. طبعاً هذا طبيعي ومنطقي، لكن اللاطببعي واللامنطقي هو أن يستمر الناس طويلاً على هذا الحال ولا يتسائلوا علنية عن طبيعة المرحلة القادمة. رغم كل ذلك لا يزال من الواضح أن ترى حزناً عميقاً في قلوبهم، ممكن أنهم لم يصدقوا بعد التغيير الذي حصل أو لا يزالون يتشككون أن يتغير الوضع لما كان عليه سابقاً.
أغلبية من إلتقينا بهم، كانوا يقولون كلنا سوريون ولا فرق بيننا. من حيث المبدأ هذا جيد جداً، لكنه غير كاف ويجب الاعتراف بحقوق الجميع وحمايتها. البعض فقط يتسائل عن شكل الحكومة الانتقالية القادمة ومدى تمثيلها لجميع السوريين وهل ستكون حكومة اللون الواحد أم حكومة تشميلية لكل السوريين؟ حتى الآن لا يفكر أغلبهم بشكل النظام الجديد أو حتى حقوق جميع المكونات، قد يرجع ذلك لأنهم لايزالون تحت تأثير فرحة سقوط النظام.
أردنا زيارة الأحياء الكوردية في دمشق. توجهنا بالسيارة وصعدنا وسط الزحمة الشديدة و وصلنا حي الأكراد (حالياً يُعرف باسم "ركن الدين" ويقال أنه تم تعريب اسم الحي بعهد عبدالناصر) الغالبية الكورد هناك لا يجيدون لغتهم الكوردية، وبعضهم من الجيل الجديد يحمل أسماء كوردية دون أن يتحدث الكوردية. ومع ذلك، هناك فخر بالهوية الكوردية ولا يزال البعض يذكر أيام جلادت بدرخان و عثمان صبري. حسب التقديرات، هناك أكثر من 300 ألف كوردي في دمشق، لكن التأثير السياسي الكوردي ضعيف جدًا.
حاولنا زيارة منزل جلادت بدرخان وقبره، لكنه لم يعد معروفًا للكثيرين. ونحن في الطريق سألت كوردياً عما إذا كان يعرف أين كان يسكن جلادت بدرخان، فرد علي السؤال: وماذا يعمل هذا الشخص؟ إنه لأمر محزن أن لا يتعرف الناس على شخصيات كجلادت بدرخان. سقوط النظام فرصة للحركة الكوردية لإعادة بناء وجودها في أحياء الكورد بدمشق.
توجهنا إلى مقبرة الشيخ خالد النقشبندي، حيث يرقد الأمير جلادت بدرخان، ويمكن القول أنه يرقد في موقع مرتفع على سفح الجبل حيث كل دمشق تظهر من حوله، من المؤسف ألاّ يعلم الكثيرون أين يرقد ويتم نسيانه.
الإشارات التي أطلقتها هيئة تحرير حتى الآن لا تبشّر وهي فقط تستهدف مشاعر الناس لكسب المزيد من الوقت حتى تقوية سلطتها على حساب مستقبل البلد. لماذا اقول هذا؟
لأنه حتى الآن لم تتطرق إدارة هيئة تحرير الشام بشكل واضح إلى قضايا الكورد، العلويين، والدروز وهي لم تتقدم حتى الآن بخطاب للشعب السوري توضح فيها خططها وما تنويه وأيضاً لم تتطرق أبداً للديمقراطية ولم تحدد شكل نظام الحكم الجديد في البلاد، هل ستكون سوريا الجديدة إسلامية؟ لا أعتقد أن شخصاً كان متطرفاً جداً يستطيع انً يتحول لشخص ديمقراطي ويبني نظاما ديمقراطياً بعيداً عن نظامٍ إسلامي. على الديمقراطيين السوريين ألاّ ينتظروا وعود هذه الإدارة الجديدة لأن عقلية هذه الإدارة لا تصلح لإدارة دولة. مثال آخر، أردنا زيارة سجن صيدنايا الشهير وتوجب علينا الحصول على موافقة من مديرية منطقة التل. توجهنا إلى هناك وقال لنا الحرس أنه علينا أن نقابل الأمير! طبعاً الأمير مسؤول في هيئة تحرير الشام ،رغم أنه كان شخصاً محترماً جداً معنا و ساعدنا بسرعة، لكن تواجد هكذا شخص بصفة "أمير" في إحدى مؤسسات الدولة بحد ذاته لا يجوز. وأيضاً عندما كنا على الحدود وقبل ختم الجواز للخروج من سوريا، قيل لنا اذا لم نكن نحمل اقامات لبنان علينا التوجه للأمير، والأمير هنا هو مسؤول في هيئة تحرير الشام وكان من المفترض أن يكون ضابطاً، و أيضاً كان محترماً معنا وفقط سألنا عن جنسياتنا و مررنا من هناك. ما أقصده هو أن عقلية الأمير الاسلامي لا تصلح لقيادة الدولة وهي مشكلة كبيرة في المستقبل القريب وقد تتسبب بزعزعة الأمن والاستقرار. هكذا أشخاص لا يستطيعون تحقيق آمال السوريين، إنما بالعكس تماماً هؤلاء من سيحطم آمال الشعب ويفرض حكومة اللون الواحد الاستبدادية. اؤكد مرة أخرى، على الديمقراطيين الكورد والعرب و الدروز والآشوريين وكافة المكونات السورية العمل ألاّ يتركوا دمشق لهؤلاء واذا اختاروا الصمت وتركوها لهؤلاء سنعود لعهد حافظ الأسد الاستبدادي ولكن هذه المرة بغطاء إسلامي.
هذا هو وجه دمشق اليوم كما رأيته.